المادة    
وقد تأثر بـالرازي كثير من المتأخرين وساروا على نهجه، وكتبهم في هذا الباب كثيرة، فمثلاً: الصفات التي يثبتها الأشاعرة لله سبحانه وتعالى أو ينفونها عنه مجموعة في عشرين صفة، كما في أم البراهين، ومن هذه الصفات: مخالفته تعالى للحوادث، يقول السنوسي صاحب أم البراهين في المتن: (ومخالفته تعالى للحوادث)، ويشرح ذلك الدسوقي صاحب الحاشية فيقول: "فإن قلت: أي فائدة في الإتيان بقوله: (تعالى) حتى توصل له بما ذكر؟ قلت: فائدته الرد على المجسمة والجهوية -أي: الذين يثبتون الجهة- فإن قلت: لم أتى به -أي بقوله: (تعالى)- في هذه الصفة والتي بعدها دون بقية الصفات؟" أي: أنه لم يأت بكلمة (تعالى) إلا في مخالفته للحوادث. يقول: "قلت: إنما أتى به مع هاتين الصفتين دون بقية الصفات؛ لأنه لم يصرح أحدٌ من العقلاء باتصافه تعالى بنقائض تلك الصفات، ما عدا نقيض المخالفة -فإن المجسمة صرحوا بأنه جسم، والجهوية صرحوا بالجهة، وقالوا: إنه تعالى في جهة العلو- ونقيض القيام بالنفس، فإن النصارى صرحوا به، وقالوا: إنه تعالى قائم بذات عيسى.. فإن قلت: لو كان السر ما ذكر، لأتى بذلك -أي بقوله: (تعالى)- مع الوحدانية رداً على الثنوية الذين صرحوا بالتعدد في الإله".
فهو يريد هنا أن يذكر السبب الذي لأجله ذكر السنوسي كلمة (تعالى) عند كلامه عن هاتين الصفتين فقط، وهما: مخالفته تعالى للحوادث، وقيامه تعالى بنفسه.
فيقول: إن المتن موجز ومختصر وبليغ، وهو إنما أتى بكلمة (تعالى) ليرد بها على أناس أتوا بشيء غريب في هاتين الصفتين لا تصدقه العقول.
فأما الصفة الأولى وهي: قيامه بنفسه، فقد شذ النصارى في ذلك وخالفوا جميع العقلاء، فقالوا: إنه قائم بالمسيح، وقد زاد الصوفية على النصارى ما لا حصر له، فإن النصارى قالوا: إن الله حل في المسيح، وهو رسول، لكن الصوفية قالوا -والعياذ بالله-:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا            وما الله إلا راهب في كنيسة
فلعظم فساد هذه العقيدة الخبيثة، أفردها بقوله: (تعالى)، فتعالى أن يكون قائماً بغيره كما تقول النصارى.
الصفة الثانية: مخالفته للحوادث، فقد قال فيها: (تعالى) لأنه يوجد أناس يثبتون العلو لله تعالى، وهذه مصيبة كبيرة، فنتيجة لذلك أفردها بقوله: (تعالى).
فقد جعلوا القول بالعلو مثل قول الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! ثم قال: لماذا لا يرد بمثل ذلك على الثنوية ؟ وذلك لأن أكفر الكفار عندهم ثلاثة: الذين قالوا: إن الله اثنان، والذين قالوا: إن الله تعالى يحل في ذات، كما قالت النصارى في عيسى، والثالث: الذي يقول: إن الله تعالى في العلو، أي: الذي يثبت العلو لله تعالى، فجعلوا القول بالعلو لله تعالى مثل القول بأن الله هو المسيح، عياذاً بالله تعالى من هذا الضلال المبين!
  1. الرد على قول الأشاعرة: إنه يلزم من إثبات العلو إثبات الجهة

    ثم يقول في موضع آخر: "إنه يستحيل أن يكون له تعالى جهة".
    هل قال الله تعالى: لي جهة؟! وهل قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لله جهة؟! وهل قال أهل السنة : إن لله جهة، بهذا اللفظ؟!
    نحن نثبت لله تعالى العلو والفوقية، وأما قولهم: إنه يلزم من هذا إثبات الجهة، فنقول: نحن لا نقول بهذا، بل أنتم الذين ترون أن هذا من لوازم العلو.
    يقول: "يستحيل أن يكون له تعالى جهة، بأن يكون له يمين أو شمال، أو فوق أو تحت، أو خلف أو أمام؛ لأن الجهات الست من عوارض الجسم، ففوق من عوارض عضو الرأس، وتحت من عوارض عضو الرجل، ويمين وشمال من عوارض الجنب الأيمن والأيسر، وأمام وخلف من عوارض البطن والظهر، ومن استحال عليه أن يكون جرماً استحال عليه أن يتصف بهذه الأعضاء ولوازمها. قال في شرح الوسطى : وعندنا جرم ليس في جهة ولا له جهة، وهو كرة العالم، والآخر جرم ليس له جهة، وهو في جهة لغيره، وهو الحيوان الذي لا يعقل، فإذا قلت: على يمين الفرس، فبالنظر للواقف في محلها"، يعني: أن الحيوانات ليس لها جهات، فإذا قلت: على يمين الفرس، أو على شمال الثور، فذلك كما لو كان مكان الفرس آدمي واقف، أما الفرس فليس له يمين ولا شمال. لماذا ؟! لا ندري!!
    قال: "وجرم في جهة وله هو جهة، وهو الإنسان فقط. فعلم من هذا أن الجهات خاصة بمن يعقل"، أي: أن الذي لا يعقل ليس له جهة، قال: "فإذا أضيفت الجهات لغير العاقل كان ذلك بالنظر للعاقل، فإذا قيل: يمين المحراب أو شماله فباعتبار المصلي فيه... إذا علمت هذا، فاعلم أن قوله: هو جهة، عطف على ما قبله" إلى أن يقول: "أو يتقيد بمكان بأن يحل فيه على الدوام، وكذا يستحيل عليه" أي: يستحيل على الله سبحانه وتعالى أن يكون في جهة بناءً على هذا الكلام العقلي المقنع في نظره.
    يقول: "يستحيل عليه الحلول في المكان لا على الدوام، بأن يكون فوق العرش أو في السماء" إن القول بأن الله سبحانه فوق العرش وفي السماء هو كلامه تعالى، إذاً هم يردون كلام الله تعالى!
    قال: "والمكان عند أهل السنة -كما تقدم- الفراغ الذي يحل فيه الجرم، فهو موهوم".
    قد يقول قائل: هل أصحاب هذه الأقوال هم جميع الأشعرية أم غلاتهم فقط؟
    فنقول: قوله: (والمكان عند أهل السنة ) يعطي شيئاً من الجواب، مع أنهم يرون أنفسهم أهل السنة وأهل الحق، فـالأشاعرة كلهم الغلاة منهم وغير الغلاة، المتقدمون منهم والمتأخرون، لا يثبتون علو الله سبحانه وتعالى، ولا يثبتون أنه تعالى فوق المخلوقات، وكثيراً ما نسمع من يقول: إن مناقشة هذا الأمر وإثارته إنما هي إشارة لأمر قد عفا عليه الزمن، وانقرض؛ فليس هناك فائدة من الكلام فيه.
    فنقول: إن هذه العقائد هي التي تدرس في الجامعة الأزهرية، وفي المعاهد الأزهرية، وفي المعاهد الدينية والعلمية في الهند، وفي أندونيسيا، وفي ماليزيا، وفي غيرها من دول أفريقيا وآسيا، وفي معظم المدارس إلا ما كان منها لـأهل الحديث وأنصار السنة وما أشبه ذلك، فهذه العقائد هي التي تحفظ متونها، وتدرس شروحها، وهذا هو ما يعتقدونه تماماً، ويقررونه، ويردون على من خالفه؛ بل ويكفرونه.
  2. تكفير الأشاعرة لمثبتي العلو

    ولذلك يقول صاحب الحاشية تعليقاً على قول السنوسي: (بخلاف الجهل بما يجب لله وما يستحيل عليه فإنه كفر): "قوله: (فإنه كفر) ومن عاشر العوام وعاين جهلهم، لا يسعه إلا القول بكفرهم؛ لجهلهم بالضروري"، أي: لأنهم يجهلون ما يجب لله وما يستحيل عليه، ومن ذلك أنهم يثبتون أن الله تعالى في السماء، وهذا دليل على أن هؤلاء العوام يجهلون ما لله، إذاً هم كفار، فكل من يقول: إن الله في السماء فهو كافر.
    ويقول في موضع آخر: "فيه قولان، والمعتمد عدم تكفيرهم" أي: الذين يثبتون العلو لله تعالى؛ ففي حكمهم عند الأشاعرة قولان:
    القول الأول: من اعتقد أن الله تعالى في السماء أو فوق العرش كما أخبر الله في كتابه، فهو كافر؛ لأنه صرح بنقيض ما يستحيل على الله، والعقيدة عندهم هي: ما يجب لله، وما يستحيل عليه، وما يجوز في حقه، فمن أثبت لله شيئاً مما يستحيل عليه، أو نفى عنه شيئاً مما يجب له؛ فهو كافر.
    القول الثاني: أنهم ليسوا كفاراً، لكنهم عصاة ضلال.. وهو الذي اعتمده.
    وبعض الشراح قالوا: لأن لديهم شبهات نقلية، ويقصدون بها أدلة العلو، كقوله تعالى: (( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ))[الملك:16]، وقالوا: فلا نكفر أحداً قال بشيء في القرآن، وكذلك حديث الجارية.. فهذه الأدلة وغيرها هي التي جعلتهم يتوقفون في تكفير من يثبت العلو لله تعالى؛ لأنها عندهم بمثابة شبهات، وقد ردوا حديث الجارية لأنه حديث آحاد، مع أنه قد رواه مسلم، فقالوا: لا بد أن يكون متواتراً، ولو كان متواتراً لأوَّلوه؛ لأنهم قد أولوا القرآن الكريم.
    ومنها: أن هذه هي عقيدة العرب في الجاهلية، فقد كانوا يعتقدون أن الله تعالى في السماء، كما قال عنترة :
    يا عبل أين من المنية مهربي إن كان ربي في السماء قضاها
    والنبي صلى الله عليه وسلم لما سأل الجارية أجابت بعقيدة العرب في الجاهلية.
    فيقال لهم: وهل أقرها النبي صلى الله عليه وسلم على عقيدة الجاهلية، بقوله: {أعتقها} وفي رواية: {فإنها مؤمنة} ؟!
  3. خلاصة مذهب نفاة العلو

    ومذهب نفاة العلو يتلخص في قولين:
    الأول: قولهم: إنه في كل مكان. فقد هربوا من إثبات العلو فأثبتوا أنه في كل مكان.
    الثاني: أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا عن يمينه ولا عن شماله، ولا أمامه ولا خلفه، وهذا كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: لو أراد أحد أن يصف العدم بشيء لم يصفه بأكثر من هذا، فإن الذي يصفونه بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا تحت؛ هذا ليس موجوداً، ومعنى ذلك أنهم يقولون: لا يوجد لهذا الكون إله، وليس لهذا العالم خالق. أما القول بأنه في كل مكان، فلهم فيه شبهات قد تؤثر على بعض الناس، وذلك كاستدلالهم بقوله تعالى: (( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ ))[الزخرف:84]، وقوله تعالى: (( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ))[الحديد:4]، وغير ذلك.
    ومن المعلوم أن الله تعالى في كل مكان ومع كل أحد بعلمه، لكنه عز وجل بذاته فوق العرش وفوق العالم، لا يخالط هذا الكون ولا يمازجه.
    إذاً: هو تعالى فوق العرش، ومع ذلك لا يخفى عليه منا خافية، (( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ))[طه:7].
  4. تأويلهم للآيات الدالة على الفوقية

    قال المصنف رحمه الله: [وأما كونه فوق المخلوقات، فقال تعالى: (( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ)[الأنعام:18]^، ((يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ))[النحل:50]^].
    وهذه الآيات قد أولها المؤولون، فقالوا: المراد بذلك فوقية المكانة لا فوقية المكان، وفوقية القهر والغلبة لا فوقية الذات، فنقول: وما المانع أن يكون المراد فوقيته بذاته؛ فإنها أوضح في العقول وأقرب، ويلزم منها فوقية المكانة والغلبة؟!
    لكنهم يؤولون الصفة ويفسرونها ببعض لوازمها، ويفرون من حقيقتها التي وضعت لها، والتي يفهمها منها كل عربي.
    ومما قالوه: إن هذا كما إذا قلت: الملك فوق الوزير، أي: أعلى منه درجة، فيقال لهم: وهل يلزم من ذلك أن الملك ليس فوق الوزير مكاناً؟! فكون الملك فوقه من حيث المكانة والمنزلة لا ينفي أن يكون فوقه في المكان، ونحن نثبت لله تعالى فوقية المكان وفوقية المكانة، ولا تعارض بينهما.
    إن هؤلاء المؤولة كلما ذكرت لهم الأدلة على علو الله تعالى أولوا تلك الأدلة؛ فيفسرون الفوقية ببعض لوازمها، وهي في الحقيقة صفة ثابتة لله تعالى، فهو فوق العالم حقيقة، ومن لوازم ذلك الغلبة والقهر والظهور.